فصل: من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ لأنها هي المُوْحاةُ. وأصولُ البصريين تأبى ذلك، ويُقَدِّرون أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلًا عندهم، والقائمُ هنا مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ وهو {إليك}. وقرئ {لَيُحْبِطَنَّ} أي اللَّهُ. و{لَنُحْبِطَنَّ} بنونِ العظمةِ. و{عَمَلَكَ} مفعولٌ به على القراءتين.
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}.
قوله: {بَلِ الله فاعبد} الجلالةُ منصوبةٌ باعبُدْ. وتقدَّم الكلامُ في مثل هذه الفاء في البقرة. وجعَلَه الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ أي: إنْ كنتَ عاقلًا فاعبدِ اللَّهَ فَحَذَفَ الشرطَ وجَعَلَ تقديمَ المفعولِ عِوَضًا منه. ورَدَّ الشيخُ عليه: بأنه يجوزُ أَنْ يجيءَ: زيدٌ فعَمْرًا اضرِبْ فلو كان التقديمُ عِوَضًا لجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّض منه. وقرأ عيسى {بل اللَّهُ} رفعًا على الابتداءِ، والعائدُ محذوفٌ أي: فاعْبُدْه.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى {قَدَّروا} بتشديد الدالِ، {حَقَّ قَدَره} بفتح الدال. وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ {قَدَره}.
قوله: {والأرض جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ، كقولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]؟ و{جميعًا} حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها. والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها {قبضَتُه} سواءً جَعَلْته مصدرًا- لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله- أم مرادًا به المقدارُ. قال الزمخشري: ومع القصدِ إلى الجمع- يعني في الأرض- وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها. وقال أبو البقاء: وجميعًا حالٌ من الأرض، والتقدير: إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي: مقبوضه، فالعامل في إذا المصدرُ، لأنه بمعنى المفعولِ. وقال أبو علي في الحجة: التقدير: ذاتُ قبضَتِه. وقد رُدَّ عليه: بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه انتهى. وهو كلامٌ فيه إشكالٌ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في إذا التي لم يُلْفَظْ بها.
وقوله: {قَبْضَتُه} إنْ قَدَّرْنا مُضافًا كما قال الفارسي أي: ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعًا موقعَه، وحينئذٍ يُقال: كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ؟ لا يُقال: حُلَّة نَسْجة اليمن بل نَسْجُ اليمن أي: منسوجته. والجواب: أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد، وهذه لمجرد التأنيثِ. كذا أُجيب، وليس بذاك، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ. واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك.
والقَبْضَةُ بالفتحِ: المرَّةُ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة. والعامَّةُ على رفعِ {قَبْضَتُه} والحسنُ بنصبها. وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ، أي: في قبضته. وقد رُدَّ هذا: بأنها ظرفٌ مختصُّ فلابد مِنْ وجود في وهذا هو رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم؛ إذ يُجيزون: زيد دارَك بالنصب أي: في دارك. وقال الزمخشري: جعلها ظرفًا تشبيهًا للمؤقت بالمبهم فوافق الكوفيين. والعامَّةُ على رَفْعِ {مَطْوياتٌ} خبرًا، و{بيمينِه} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ ب {مَطْوِيَّات}.
الثاني: أنه حالٌ من الضمير في {مَطْوِيَّات}. الثالث: أنه خبرٌ ثانٍ، وعيسى والجحدري نصباها حالًا. واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو: زيدٌ قائمًا في الدار. وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين، أحدهما- وهو الأظهرُ- أَنْ تكونَ {السماوات} نَسَقًا على {الأرض} ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه، وتكون {مَطْوِيَّاتٍ} حالًا من {السماوات} كما كان {جميعًا} حالًا من {الأرض} و{بيمينه} متعلقٌ بمطويَّات. والثاني: أن يكون {مطويَّات} منصوبًا بفعلٍ مقدرٍ، و{بيمينه} الخبرُ، و{مَطْويَّات} وعاملُه جملةٌ معترضةٌ، وهو ضعيفٌ.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}.
قوله: {فِي الصور} العامَّةُ على سكونِ الواوِ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمعَ صُوْرة. وهذه تَرُدُّ قولَ ابنِ عطية أنَّ الصُّوْرَ هنا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ القَرْنَ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ صُورَة. وقرِئَ {فَصُعِقَ} مبنيًّا للمفعولِ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولهم: صَعَقَتْهم الصاعقةُ. يُقال: صَعَقَه اللَّهُ فصَعِقَ.
{إِلاَّ مَن شَاءَ الله} متصلٌ والمستثنى: إمَّا جبريلُ وميكائيل وإسْرافيلُ، وإمَّا رِضوانُ والحُوْرُ والزَّبانية، وإمَّا الباري تعالى قاله الحسن. وفيه نظرٌ من حيث قولُه: {مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} فإنه تعالى لا يَتَحَيَّزُ. فعلى هذا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ منقطعًا.
قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} يجوزُ أَنْ تكونَ {أخْرى} هي القائمةَ مقامَ الفاعلِ، وهي في الأصلِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُفِخَ فيه نَفْخَةٌ أخرى، ويؤيِّدُه التصريحُ بذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] فصرَّحَ بإقامة المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَه الجارَّ، و{أخرى} منصوبةٌ على ما تقدَّم.
قوله: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} العامَّة على رفع {قيام} خبرًا. وزيد بن علي نصبَه حالًا وفيه حينئذٍ أوجهٌ، أحدهما: أنَّ الخبرَ {يَنْظرون} وهو العاملُ في هذه الحالِ أي: فإذا هم يَنْظُرون قيامًا. والثاني: أنَّ العاملَ في الحالِ ما عَمِلَ في إذا الفجائيةِ إذا كانت ظرفًا. فإن كانت مكانيةً- كما قال سيبويه- فالتقدير: فبالحَضْرة هم قيامًا. وإنْ كانت زمانيةً كقول الرُّمَّانيِّ ففي ذلك الزمانِ هم قيامًا، أي: وجودهم. وإنما احتيج إلى تقديرِ مضافٍ في هذا الوجهِ لأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ. الثالث: أن الخبرَ محذوفٌ هو العاملُ في الحال أي: فإذا هم مبعوثون، أو مجموعون قيامًا. وإذا جَعَلْنا الفجائيةَ حَرْفًا- كقولِ بعضِهم- فالعاملُ في الحالِ: إمَّا {يَنْظُرون} وإمَّا الخبرُ المقدرُ كما تقدَّم تحقيقُهما.
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)}.
قوله: {وَأَشْرَقَتِ} العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على بنائه للمفعول، وهو منقولٌ بالهمزة، مِنْ شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ، وليس مِنْ أشرقَتْ بمعنى أضاءَتْ لأنَّ ذاك لازمٌ. وجعله ابنُ عطية مثل: رَجَعَ ورَجَعْتُه، ووَقَفَ ووقَفْته، يعني فيكون أَشْرَق لازمًا ومتعديًا.
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)}.
قوله: {زُمَرًا} حالٌ. وزُمَر جمع زُمْرَة، وهي الجماعاتُ في تفرقةٍ بعضُها في إثْر بعضٍ وتَزَمَّروا: تجمَّعُوا قال:
حتى احْزَألَّتْ زُمَرٌ بعد زُمَرْ

هذا قولُ أبي عبيدة والأخفشِ. وقال الراغب: الزُّمْرَة الجماعةُ القليلةُ، ومنه شاةٌ زَمِرة أي: قليلة الشَّعْر، ورجلٌ زَمِرٌ أي: قليلُ المروءةِ. وزَمَرَتِ النَّعامةُ تَزْمِرُ زَمارًا، ومنه اشتقَّ الزَّمْرُ والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة.
قوله: {حتى إذا} تقدَّمَ الكلامُ في حتى الداخلةِ على إذا غيرَ مرةٍ. وجوابُ إذا قوله: {فُتِحت} وتقدَّم خلافُ القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام. وقرأ ابن هرمز {ألم تَأْتِكم} بتاء التأنيث الجمعِ. و{منكم} صفةٌ ل {رسل} أو متعلِّق بالإِتيان، و{يَتْلون} صفةٌ أخرى، و{خالدين} في الموضعَيْن حالٌ مقدرةٌ.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}.
قوله: {وَفُتِحَتْ} في جواب إذا ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قوله: {وفُتحت} والواو زائدةٌ، وهو رأيُ الكوفيين والأخفش، وإنما جيْءَ هنا بالواوِ دونَ التي قبلها؛ لأنَّ أبوابَ السجون مغلقةٌ إلى أَنْ يَجيْئَها صاحب الجريمة فتُفتَحَ له ثم تُغْلَقَ عليه فناسَبَ ذلك عَدَم الواوِ فيها، بخلافِ أبوابِ السرورِ والفرحِ فإنَّها تُفْتَحُ انتظارًا لمَنْ يَدْخُلُها.
والثاني: أن الجوابَ قولُه: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على زيادةِ الواوِ أيضًا أي: حتى إذا جاؤُوها قال لهم خَزَنَتُها.
الثالث: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، قال الزمخشري: وحَقُّه أَنْ يُقَدَّرَ بعد {خالدين}. انتهى يعني لأنه يجيْء بعد متعلَّقاتِ الشرطِ وما عُطِف عليه، والتقدير: اطمأنُّوا. وقدَّره المبرد: سُعِدُوا. وعلى هذين الوجهين فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه: و{فُتِحَتْ} في محلِّ نصب على الحال. وسَمَّى بعضُهم هذه الواوَ واوَ الثمانية. قال: لأنَّ أبوابَ الجنة ثمانيةٌ، وكذا قالوا في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقيل: تقديرُه حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها، يعني أنَّ الجوابَ بلفظِ الشرطِ ولكنه بزيادةِ تقييده بالحالِ فلذلك صَحَّ.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)}.
قوله: {نَتَبَوَّأُ} جملةٌ حاليةٌ، و{حيثُ} مفعولٌ به. ويجوز أن تكونَ ظرفًا على بابِها، وهو الظاهرُ.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.
قوله: {حَآفِّينَ} جمعُ حافّ، وهو المُحْدِقُ بالشيءِ، مِنْ حَفَفْتُ بالشيءِ إذا أَحَطْتُ به قال:
يَحُفُّه جانبا نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ** مثلَ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ

وهو مأخوذٌ من الحِفاف وهو الجانبُ. قال الشاعر:
له لَحَظاتٌ عن حِفافي سَرِيْرِه ** إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائل

وقال الفراء وتبعه الزمخشري: لا واحدَ لحافِّين وكأنهما رَأَيا أنَّ الواحدَ لا يكون حافًّا؛ إذِ الحُفُوْفُ هو الإِحداقُ بالشيء والإِحاطةُ به، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ في جمعٍ.
قوله: مِنْ حَوْلِ في مِنْ وجهان أحدُهما- وهو قولُ الأخفش- أنها مزيدةٌ. والثاني: أنها للابتداءِ، والضميرُ في {بينهم} إمَّا للملائكةِ، وإمَّا للعبادِ، و{يُسَبِّحون} حالٌ من الضمير في {حافِّين}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} سَوّقٌ ولكن بغير تعبٍ ولانَصَبٍ، سَوْقٌ ولكن برَوْحٍ وطَرَبٍ.
{زمرًا} جماعاتٍ، وهؤلاء هم عوامُّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] وفوقهم مَنْ قال فيهم: {وَاُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] وفَرْقٌ بين مَنْ يُسَاقُ إلى الجنة، وبين مَنْ تُقَرَّبُ منه الجنة هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وإذا وافوا الجنة تكون الأبوابُ مُفَتَّحَةً لئلا يصيبهم نَصَبُ الانتظار.
ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يُسَاق، ولعلَّ هؤلاء لا رغبةَ لهم في الجنة بكثير؛ فَلهُم معه في الطريق قُولُ {طِبْتُمْ} أي أنهم يُساقون إلى الجنة بلطف دون عنف.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} صَدَقَنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المِنَّة.
{وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي أرضَ الجنة؛ نتبوأ منها حيث نشاء. وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قومُ الغُرَف أقوام آخرون.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} يُسَبِّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات هذا هو عملُ الملائكة الذين من حول العرش.
وقُضِيَ بين أهل الجنة وأهل النار بالحقِّ، لهؤلاء دَرَكات ولأولئك درجات إلى غير ذلك من فنون الحالات. وُضِيَى بين الملائكة أيضًا في مقاماتهم على ما أراده الحقُّ في عباداتهم. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

قَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقُرْآنُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْقَوْلِ الْمَعْهُودِ؛ فَإِنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا إنَّمَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعَهُ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ عَلَى سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَغَيْرِهِ وَجَعَلَهَا عَامَّةً وَبَيَّنَّا أَنَّ تَعْمِيمَهَا فِي كُلِّ قَوْلٍ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فَقَدْ قَسَّمَ الْقَوْلَ إلَى حَسَنٍ وَأَحْسَنَ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُتَّبَعٌ وَهَذَا حُجَّتُهُمْ. فَيُقَالُ: الْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إلْزَامٌ وَحَلٌّ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} فَقَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاتِّبَاعِ أَحْسَنِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِ التَّوْرَاةِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا فِيهَا مَدْحٌ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ بِالْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ وَاتِّبَاعُ الْقَوْلِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَمُقْتَضَاهُ فِيهِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ لَيْسَ كُلُّهُ أَحْسَنَ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي نَفْسِهِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ حَسَنِ الْكَلَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَبَيْنَ حَسَنِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقْتَضَاهُ الْمَأْمُورِ وَالْمُخْبِرِ عَنْهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَالَ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَالْقُرْآنُ تَضَمَّنَ خَبَرًا وَأَمْرًا فَالْخَبَرُ عَنْ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ وَعَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ الصِّنْفَيْنِ حَسَنٌ وَاتِّبَاعَ الْمُقَرَّبِينَ أَحْسَنُ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ حَسَنٌ وَفِعْلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَهَا أَحْسَنُ وَمَنْ اتَّبَعَ الْأَحْسَنَ فَاقْتَدَى بِالْمُقَرَّبِينَ وَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْبُشْرَى. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} هُوَ أَيْضًا أَمْرٌ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْأَمْرَ يَعُمُّ أَمْرَ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِحْبَابِ. فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وَاجِبٍ أَمْرَ إيجَابٍ وَبِمَا فِيهِ مِنْ مُسْتَحَبٍّ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ كَمَا هُمْ مَأْمُورُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} وَقَوْلِهِ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْمَعْرُوفُ يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ وَقَوْلِهِ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَهُوَ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ: وَقَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.